الحاجة إلى التواصل والحاجة إلى الاستقلالية[1]
سوف نتناول في هذا الموضوع الحاجة
الإنسانية للألفة Intimacy ، والتي تتمثل في النضال من أجل تحقيق الارتباط
Connectedness مع الآخرين ، وفي نفس الوقت
الحاجة لأن يبقى الإنسان مُستقلاً منفصلاً عن الآخرين.
أولاً:
الحاجات الإنسانية إلى الاتصال (التواصل)
يكون الإنسان في كل حالاته في حاجة إلى
أن يتصل بالآخرين من البشر، فالحاجة إلى الاتصال تُولَد معه وتبقى معه طوال حياته.
فالوليد يحتاج إلى أن يُلمس ، وهي الصورة الأولية للاتصال مع الآخرين ، ثم تأخذ
الحاجة إلى الاتصال تُشبع من خلال قنوات مختلفة حسب مراحل النمو. ويتشوق إلى
الألفة والعلاقات البينشخصية الحميمة التي تربطه بالكبار المحيطين به من ذوي
الأهمية السيكولوجية لديه ، وعلى رأسهم الآباء بالطبع. ويمكن أن نقول أنه ليس هناك
إنسان إلا ويخشى فقدان الألفة مع البعض مما تربطه بهم صلة وثيقة. وتُلخِص
"سيبرج" سُبل إشباع الحاجة إلى الاتصال بمراحل قائلة: "إن الوليد
يحتاج إلى أن يُلمس وأن يُحمل وأن يُرفع إلى أعلى وأن يُدلل ويُداعب ، والطفل
الصغير يحتاج إلى الأمن ، والذي يتمثل في رضا الكبار عنه ، والحدث أو الصبي يحتاج
إلى التقبُل من أقرانه ، والمراهق يحتاج إلى الأهتمام من جانب أفراد الجنس الآخر،
وأن يكون محط أنظارهم وإعجابهم. ويحتاج الراشد إلى كل هذه الأنواع من السلوك
المُعبرة عن التعلق مُضافاً إليها الحاجة إلى الإشباع الجنسي المُباشر (Sieburg, 1985, 79). وهذه الجوانب المتعددة من التعبير عن الألفة
كلها تُشير إلى حاجة غلإنسان إلى الاتصال Contact مع الآخرين ، والفشل في هذا الاتصال في أي سن
أو في أي مرحلة يكون في معظم الحالات له نتائج غير مرغوبة ، وأحياناً ما تكون
كارثية على النمو النفسي للفرد.
وفيما يلي من فقرات سنشير إلى صور إشباع
الحاجة إلى الاتصال بالآخرين عبر سنوات العمر ممثلة في مراحل الطفولة والمراهقة
والرشد.
أظهرت بعض الدراسات
التي تمت على الأطفال في عامهم الأول ، أن الأطفال حديثي الولادة الذين لم يُحملوا
أو يُلمسوا بالأيدي بدرجة كافية في الأيام الأولى بعد الولادة يُصابون بحالة من
الاكتئاب الفمي Analytic
Depression ويُظهرون ميلاً نحو التدهور الجسمي ، مع معدل وفيات أعلى قياساً
إلى الأطفال الآخرين ممن توافر لهم اللمس والاتصال الجسدي. وحتى الرضع الذين لم
يُلمسوا جسمياً بدرجة كافية والذين تعرضوا لهذه الخبرة الحرمانية المُبكرة لوحظ
أنهم – فيما بعد – يسيطر عليهم اتجاه عام مشبع بعدم الثقة نحو الآخرين ونحو
العالم. (Spits, 1965) . مما يشير إلى أهمية حاسة اللمس في سنتي المهد
باعتبارها أول سبل تحقيق الاتصال بالآخرين.
وهذه النتائج الأخيرة ليست جديدة تماماً
فهي تتسق مع المعلومات المتواترة في الإحصاءات الطبية وفي الدراسات الانتشارية
التاريخية ، حيث تذكر هذه الدراسات أن أعداداً كبيرة من الأطفال الرضع (الذين لم
يبلغوا عامهم الأول) في البيئة التي يحتمل أن يصادف الأطفال فيها مقل هذا الحرمان
يتوفون بنسبة تصل إلى النصف بمرض السقام أو النحول[2] marasumus أو الإنهاك Wasting away . ويوضح مونتاجيو في عن "اللمس – الأهمية
الإنسانية للجلد) أن معدل الوفيات نقص بشكل كبير جداً بين الأطفال الرضع عندما
تحسنت نُظم التمريض ، ودخول نظم "العناية الحانية الرقيقة" (Tender loving care) من جانب متطوعين (Montagu,
1961, 63). ويظهر هذا أهمية اللمس البالغة في هذا المرض المبكر من عمر
الإنسان ، ويتسق مع هذا أيضاً ويؤكده ما نقوم به دراسة مستشفيات الولادة من إلزام
الممرضات من لمس الوليد بعد الولادة مباشرة باليد وتحقيق اتصال جسدي معه.
وقد بين "مونتاجيو" أيضاً أن
الجلد كجهاز حسي من أجهزة الجسم الحساسة. فالإنسان يمكن أن يقضي حياته كلها أصماً
وينقصه حواس الشم والذوق ، ولكنه يعيش حياة شبه عادية ، في الوقت الذي لايستطيع
فيه أن يعيش مطلقاً بدون الوظائف التي يؤديها الجلد (Montagu,1961,
708). بمعنى أن الطفل يستطيع أن يتحمل الحرمان من أية حاسة أخرى وأن
يواصل حياته بدون تأثيرات مرضية كبيرة أو يخبر قدراً كافياً من الإثارة الجلدية.
[1] كفافي،
د.علاء الدين ؛ الإرشاد والعلاج النفسي الأسري ، ط1/ 2012
(121:132) – دار الفكر العربي
[2] السقام أو النحول أو الهزال marasumus حالة طفولية تتميز
بالخمول والانسحاب والسقام الناتج عن الحرمان الانفعالي الشديد، وتؤدي في بعض
الحالات إلى الوفاة. وربما يحدث النحول أو الهزال للأطفال الذين نشئوا في مؤسسات
ولم يحظوا بالدفء والأمن الأنفعالي ، أو أن يكون حال النحول قد تسببت عن التربية
في أحضان أم زائدة القلق. وتُسمى أيضاً ضمور طفلي Infantile
atrophy (جابر كفافي ، 1992 ، 2072)